يُعد فن الصوت من أشهر الفنون الشعبية في منطقة الخليج العربي، وخصوصًا في البحرين والكويت. وبينما تنتشر في المنطقة فنون شعبية أخرى كالعرضة والسامري والفجري والخماري، فإن فن الصوت يحظى بمكانة خاصة، لا سيما لدى الرجال، لما يعكسه من مشاعر وأحاسيس عبر أنغام العود وإيقاع “المرواس” وحركة التصفيق والتناغم مع “الزفن”.

أصبح فن الصوت رمزًا ثقافيًا لمنطقة الخليج، مجسدًا تاريخها العريق ومعبّرًا عن إبداعات شعرائها، وقد ورد مصطلح “الصوت” في الكتب الموسيقية القديمة للدلالة على الشعر الملحن بغض النظر عن إيقاعه أو قالبه. وفي السياق الخليجي، يتفرع فن الصوت إلى قالبين رئيسيين: “الصوت العربي” بإيقاع مكون من 12 وحدة زمنية، و”الصوت الشامي” ذو الإيقاع المكون من ثماني وحدات زمنية صغيرة. وعلى الرغم من الفروقات بين أسلوبي الأداء البحريني والكويتي، فإنهما يشتركان في الجانب الإيقاعي.

نشأة وانتشار فن الصوت الخليجي

بدأ رواد فن الصوت الأوائل في الكويت والبحرين باستكشاف الموسيقى خلال رحلاتهم إلى الهند وأفريقيا، حيث تأثروا بثقافات موسيقية متنوعة. وكان عبدالله بن محمد الفرج (1836-1901) أول من أسس فن الصوت في الكويت أواخر القرن التاسع عشر، ومن هناك انتقل إلى البحرين، ليضع الفنانون البحرينيون بصمتهم الخاصة عليه. ومن البحرين، انتشر فن الصوت إلى قطر وعمان وإمارات الساحل واليمن والحجاز، حيث أضاف كل مجتمع نكهته الخاصة إليه.

في هذا السياق، كتب حسين مرهون في “مجلة الفنون الشعبية” البحرينية عن رحلة فن الصوت قائلاً إن تطوره تميز بالتنقل والتأقلم مع البيئات الجديدة، مشيرًا إلى أن البحرين كانت واحدة من أهم المحطات التي أعادت إنتاج هذا الفن وفقًا لمتطلبات بيئتها.

محمد بن فارس.. أسطورة الصوت الخليجي

برز الفنان البحريني محمد بن فارس كرائد لفن الصوت في البحرين، حيث أسس مدرسة خاصة لتعليم أصول هذا الفن، مما جعله اسمًا لا يُذكر فن الصوت الخليجي إلا ويُذكر معه. وُلد محمد بن فارس عام 1895 في مدينة المحرق، لعائلة عريقة تعود نسبًا إلى حكام البحرين. تلقى تعليمه في الكتاتيب التقليدية، ونشأ متأثرًا بجمال الطبيعة، مما انعكس في شفافية أعماله الفنية.

منذ صغره، أبدى اهتمامًا بالغًا بالموسيقى رغم أنها كانت مرفوضة اجتماعيًا آنذاك، إلا أن دعم عائلته، وخاصة شقيقه الأكبر عبداللطيف بن فارس، ساعده في صقل موهبته. تعلم العزف على العود، وبدأ في تطوير فن الصوت مستلهمًا من الفنون الشعبية والنصوص الغنائية المتداولة في الخليج، وكذلك من خلال مسامراته مع الشعراء والموسيقيين.

تأثيرات وتجديدات بن فارس في فن الصوت

لعب الفنان عبدالرحيم صالح العسيري دورًا رئيسيًا في تشكيل المسيرة الفنية لبن فارس، حيث التقيا في البحرين ثم في بومباي، حيث تأثر بأسلوب العسيري الفريد في العزف والغناء. سافر بن فارس إلى عدة أماكن، منها مسقط وبومباي، بحثًا عن نصوص غنائية وألحان جديدة.

في عشرينيات القرن العشرين، اشتهر بن فارس بأسلوبه الفريد واختيار النصوص الشعرية بعناية، مما منحه ألقابًا مثل “سيد فن الصوت” و”مجدد فن الصوت الخليجي”. وقد كان له دور بارز في جعل هذا الفن مقبولًا اجتماعيًا بين مختلف الطبقات.

إرث محمد بن فارس ومكانته في البحرين

أسس بن فارس عدة “دور” للطرب، حيث اجتمع الفنانون وعشاق الموسيقى. ونتيجة لإغلاق السلطات لهذه الدور في عام 1932، انتقلت جلسات السمر إلى مناطق خارج المحرق قبل أن تعود لاحقًا إلى وضعها الطبيعي. كما قام بن فارس بتسجيل العديد من أغانيه في البصرة وبغداد وحلب، بمصاحبة موسيقيين بارعين مثل صالح الكويتي ويوسف زعرور.

تخليدًا لاسمه، أقيمت عدة معالم باسمه في البحرين، مثل بيت محمد بن فارس لفن الصوت الخليجي، وفرقة محمد بن فارس للفنون الشعبية، وقاعة محمد بن فارس، وحديقة محمد بن فارس. وقد ترك وراءه إرثًا موسيقيًا خالدًا يشمل أكثر من 300 أغنية، منها “قريب الفرج يا دافع الهم والعسر”، “لان الحصى والذي أهواه ما لانا”، و”سكر الصب في هواك وغنى”.

توفي محمد بن فارس في 23 نوفمبر 1947، لكنه ظل حاضرًا في ذاكرة الخليج كأحد أعمدة فن الصوت، الذي أثرى التراث الموسيقي بلمساته الفريدة، ليظل صوته وألحانه نبضًا حيًا في الثقافة الخليجية.

المصدر: