منذ نشأة الجامعات ومراكز البحث الأكاديمي، لم يتوقف الجدل حول مدى قدرة الدراسات الأكاديمية على فهم الواقع. فالأكاديميات تحيط نفسها بهالة من القداسة، حيث يقدم الأكاديميون أنفسهم على أنهم المصدر الوحيد للمعرفة، وأن ما ينتجونه من دراسات وكتب لا يُمكن التشكيك فيه.

على الجانب الآخر، يرى منتقدو الأكاديميا أن المؤسسات البحثية غالبًا ما تكون عاجزة عن تقديم رؤى جديدة، لأنها مقيدة بالأفكار المستقرة، وتعتمد على تدريس النظريات القديمة بدلاً من السعي وراء التجديد، الذي قد يهدد مكانتها. المؤرخ مارتن برنال، مؤلف أثينا السوداء، أشار إلى أن الاختراقات المهمة في العلوم الاجتماعية جاءت غالبًا من خارج الأوساط الأكاديمية، وأحيانًا من قبل هواة. ويذهب بعض النقاد إلى حد السخرية من البحث الأكاديمي، معتبرين أنه مجرد تعقيد للمسائل الواضحة. ومن الطرائف التي تُروى عن الأكاديميين قصة عالم روسي أجرى تجربة لمعرفة العامل المسبب للسكر، فخلط الفودكا مع الكولا وشربها فسكر، ثم كرر التجربة مع الويسكي والكولا، واستنتج في النهاية أن الكولا هي السبب!

استحضرتُ هذه المقدمة أثناء قراءتي للترجمة العربية التي طال انتظارها لكتاب حنا بطاطو فلاحو سوريا، وهو مؤلف سبقته شهرة الكاتب وأبحاثه المهمة عن العراق. يتميز بطاطو – كغيره من الأكاديميين – بعشقه للأرقام والإحصاءات، حيث يعتمد في كتابه على تقارير رسمية صادرة عن جهات سورية، مثل الوزارات والمكتب المركزي للإحصاء ووزارة التخطيط. لكن المشكلة أن هذه الإحصاءات الرسمية، لسنوات طويلة، لم تكن تعكس الواقع الفعلي، إذ صُوِّر كل شيء على أنه في تحسن مستمر؛ من إنتاجية القطاع العام إلى مستوى المعيشة وانخفاض البطالة وازدهار التعليم. كان أي انتقاد للإحصاءات الرسمية يُعد مخاطرة كبرى، لذا لجأ الكتّاب إلى مقدمات طويلة لتبرير أي ملاحظة سلبية، تبدأ عادة بالاستشهاد بعبارات رسمية مثل «لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ»، قبل الإشارة إلى المشكلات الفعلية، حتى لو كانت بسيطة، مثل قلة النظافة في الحمامات العامة!

في هذا المناخ، كانت الأرقام الرسمية بعيدة عن الواقع، بل مشوهة لدرجة تثير السخرية. على سبيل المثال، قد يصاب الباحث غير السوري بالدهشة عندما يلاحظ أن نسبة كبيرة من أصدقائه السوريين يحتفلون بعيد ميلادهم في يناير. وقد يدفعه الفضول الأكاديمي إلى البحث في الأسباب، ليخرج بدراسة معقدة عن ارتفاع معدلات الخصوبة في الربيع، وتأثير العوامل البيئية على ذلك! بينما السبب الحقيقي أكثر بساطة: وهو أن وزارة التربية كانت تسمح بضم مواليد يناير إلى دفعة العام السابق، ما دفع كثيرًا من الأهالي إلى تسجيل مواليد الأشهر الأخيرة من السنة على أنهم وُلدوا في يناير لكسب سنة دراسية إضافية لأطفالهم.

الأمر لا يقتصر على الإحصاءات السكانية، بل يشمل مختلف المجالات. فعلى الورق، كانت سوريا تبدو كغابة استوائية بسبب التقارير السنوية عن حملات التشجير، لكن الواقع كان يشير إلى التصحر المتزايد. وقرار وزارة النقل بإعفاء السيارات المخصصة لتربية النحل من الرسوم أدى إلى ظهور آلاف المناحل الوهمية. أما قطاع السياحة، فقد شهد طفرة رقمية عندما قُرر احتساب كل العابرين للحدود – بمن فيهم المغتربون العائدون – ضمن إحصاءات السياح الدوليين!

حتى الاقتصاد لم يكن بمنأى عن هذه التلاعبات. في التسعينيات، كان هناك نظام دولار التصدير الذي سمح للمصدرين باستيراد بضائع ممنوعة مقابل تصدير سلع محلية. فكانت النتيجة عمليات تصدير وهمية بملايين الدولارات؛ كإرسال دربكات فخارية إلى لبنان لإلقائها هناك، أو تصدير أوراق ملوخية مجمعة من القمامة، أو شحنات بطيخ إلى مصر يتم التخلص منها في البحر فور مغادرة الموانئ السورية. جميع هذه العمليات كانت تُسجل في البيانات الرسمية، وهي نفسها التي اعتمد عليها حنا بطاطو في تحليله.

بالإضافة إلى مشكلات الأرقام، وقع بطاطو في أخطاء أخرى، منها مقارنته النمو الديموغرافي في سوريا مع الولايات المتحدة واليابان. وهي مقارنة غير منطقية، فالثورة الديموغرافية في الدول المتقدمة انتهت منذ القرن التاسع عشر، بينما لا تزال مستمرة – ولو بوتيرة أقل – في دول العالم الثالث. كما أن الولايات المتحدة تحقق نموًا سكانيًا من خلال الهجرة، لا عبر العوامل الداخلية.

أما أكثر فرضيات بطاطو إثارة للجدل، فكانت استنتاجه أن المسؤولين البعثيين الذين تسلموا السلطة في سوريا ينتمون إلى طبقة الكولاك، أي ملاك الأراضي الأغنياء في الريف. هذه ملاحظة صحيحة جزئيًا، لكنها معروفة سلفًا، وكان يمكن تقديمها كمقال أو دراسة قصيرة بدلًا من كتاب ضخم. لكنه، كغيره من الأكاديميين الأمريكيين، اتبع أسلوب غزل البنات الذي وصفه سمير أمين، حيث يتم تضخيم كمية المعلومات لتضفي أهمية مصطنعة على البحث.

في هذا السياق، اعتمد بطاطو على مصادر دون تدقيق، فمثلًا، وصف مجلة الإنسانية التي أصدرها حسن رزق في حماة عام 1900 بأنها ذات توجه شعبوي، بينما كانت في الواقع مجلة نخبوية تهتم بالفكر الغربي. كذلك، في حديثه عن قادة الفلاحين في ريف حماة، نقل معلوماته من مصادر حزبية، ركزت على شخصيات معينة لمجرد أنها بقيت وفية للحزب، دون اعتبار لدورها الفعلي.

بلا شك، هناك الكثير من الملاحظات الأخرى على كتاب فلاحو سوريا، التي قد تستحق التوسع في مناقشتها لاحقًا. لكن تبقى المشكلة الأكبر هي الاعتماد المفرط على الأرقام الرسمية، التي كانت – في السياق السوري – أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.

المصدر :