تمرّ الموسيقى الكلاسيكية في أستراليا بأزمة حقيقية تهدد وجودها، وهي ليست أزمة صاخبة بل أشبه بذبول بطيء استمر لعقود. هذا القطاع لطالما عانى من نقص التمويل، وقلة الحضور، وتجاهل ثقافي متواصل. صحيح أن تراجع أعداد الجمهور يُعد العلامة الأوضح، لكن الأزمة أعمق من ذلك بكثير؛ فهي تمتد إلى إجهاد العاملين، واستمرار التفاوتات، والشعور المتزايد بعدم صلة الموسيقى الكلاسيكية بالمجتمع المعاصر.

هذه “الأزمة الصامتة” لم تعد قابلة للتجاهل. وإن لم يتم اتخاذ خطوات جذرية لتغيير المسار، فقد تنزوي الموسيقى الكلاسيكية إلى هامش الحياة الثقافية الأسترالية.

الحقائق واضحة: جمهور الموسيقى الكلاسيكية يتقدم في السن بسرعة

تشير البيانات إلى أن جمهور الموسيقى الكلاسيكية في أستراليا يتكوّن في الغالب من كبار السن، وتزداد الفجوة مع الوقت. ففي عام 2005، حضر 9٪ فقط من السكان عروضاً موسيقية كلاسيكية، وتراجع الرقم إلى 7٪ بحلول عام 2022، حسب تقرير من مؤسسة “كرييتف أستراليا”.
في المقابل، وصلت نسبة حضور الموسيقى المعاصرة إلى 29٪ من السكان في نفس العام. وبالنسبة للفئة العمرية بين 15 و34 عاماً، حضر 67٪ منهم عروض موسيقية، لكن فقط 10٪ حضروا عروضاً كلاسيكية.

التصورات السائدة عن الموسيقى الكلاسيكية — مثل كونها نخبوية، أو باهظة، أو “ليست للناس العاديين” — ما تزال تعرقل انتشارها. ويُظهر التحليل الاجتماعي الاقتصادي أن أصحاب الشهادات العليا أكثر احتمالًا بخمس مرات لحضور العروض مقارنة بمن توقفوا عند التعليم الثانوي (26٪ مقابل 5٪)، مما يسلط الضوء على اعتماد هذا النوع الموسيقي على شريحة ضيقة ومرفّهة من المجتمع.

الإرهاق وانعدام الأمان: الموسيقيون يدفعون الثمن

وراء العروض الراقية موسيقيون منهكون. دراسة أُجريت عام 2014 كشفت أن 32٪ من موسيقيي الأوركسترا المحترفين في أستراليا يعانون من الاكتئاب، و22٪ أظهروا أعراض اضطراب ما بعد الصدمة. ومع ازدياد التحديات في القطاع، من المرجّح أن الأرقام الآن أسوأ. أما طلاب الموسيقى، فقد بلغت نسبة من يعانون من مشاكل نفسية 61٪، مما يعكس خطورة المهنة على الصحة العقلية.

تشمل الضغوط: ساعات العمل الطويلة، وقلة الأمان الوظيفي، والإجهاد البدني، والمنافسة الشديدة. العديد من الموسيقيين المستقلين يكسبون اليوم أقل مما كانوا عليه قبل عقد، رغم العمل أكثر وإنفاق المزيد على التسويق الذاتي.

رغم وجود وظائف ثابتة ذات رواتب مرتفعة تصل إلى أكثر من 100,000 دولار سنويًا في بعض الأوركسترات، فإن عددها قليل للغاية وفرص الوصول إليها محدودة. بالنسبة لمعظم الموسيقيين، المسار العملي يتشكل من وظائف متعددة تجمع بين التعليم والعروض المؤقتة والعمل غير المأجور أحيانًا. وكما ورد في أحد التقارير: “الموسيقيون غالبًا ما يكونون آخر من يُدفع لهم”.

الأزمة أيضًا أزمة صلة وارتباط

ليست الموسيقى بحد ذاتها هي المشكلة، بل الإحساس المتزايد بأنها غير متصلة بالحياة الأسترالية الحديثة.

هناك محاولات لتغيير ذلك. على سبيل المثال، جعلت أوركسترا الشباب الأسترالية (AYO) من الشمولية هدفًا استراتيجيًا، من خلال برامج مخصصة للطلبة من السكان الأصليين والمناطق الريفية. وتقدم أوركسترا الحجرة الأسترالية عروضًا عائلية وبرامج موسيقية للأطفال لبناء جمهور منذ الصغر.

تُعد فرق مثل “Ensemble Offspring” و”Flinders Quartet” نماذج مشرقة في تقديم أعمال أسترالية جديدة، والتعاون مع أنواع موسيقية مختلفة، وتنظيم الحفلات في أماكن غير تقليدية. حتى أوركسترا WASO قامت بمبادرة “Rusty Orchestra” التي تجمع الهواة والمحترفين في تجربة أداء جماعي لكسر الحواجز الطبقية.

لكن هذه الابتكارات لا تزال محدودة التمويل، بينما تستمر الأوركسترات التقليدية المحافظة في الاستحواذ على الجزء الأكبر من الدعم المالي واتخاذ القرارات.

عدم المساواة في الموسيقى يبدأ من الصف الدراسي

تبدأ فجوة المساواة في التعليم الموسيقي مبكرًا. فطلاب المناطق الريفية في أستراليا أقل حظًا في الوصول إلى تعليم موسيقي عالي الجودة، بسبب تكاليف السفر، وضعف البنية التحتية، ونقص المعلمين.

والنتيجة مزدوجة: يخرج العديد من المواهب الريفية من دائرة التطوير، وتحرم المجتمعات الإقليمية من التفاعل المبكر مع الموسيقى الكلاسيكية. هناك منظمات مثل “مؤسسة موسيقى الأطفال الأسترالية” تعمل على سد هذه الفجوة، ولكن حتى مع توفير الدعم في المراحل الدراسية الأولى، يبقى قطاع التعليم العالي في خطر. فقد شهد عام 2025 مزيدًا من تقليص البرامج الموسيقية في الجامعات.

هل تتحول الأزمة إلى نقطة تحول؟

رغم كل ما سبق، ليست هذه نهاية الطريق. تقرير “Listening In” لعام 2025 يُظهر أن الرغبة في حضور الموسيقى الحية لا تزال قوية، لكن الجمهور يطالب بمحتوى أكثر ارتباطًا، وسهولة في الوصول، وصدقًا في التقديم.

حتى تصمد، تحتاج صناعة الموسيقى الكلاسيكية لأكثر من تغييرات سطحية في البرمجة؛ فهي بحاجة إلى تغيير هيكلي عميق: تنويع القيادة، وإعادة توزيع الموارد، ودمج الشمولية كقيمة أساسية لا كأداة تسويق.

الموسيقى لم تمت، لكن النموذج التقليدي قد انتهى. ويبقى السؤال: هل لدى هذا القطاع الشجاعة لإعادة تخيل نفسه، واضعًا الفنانين والجمهور في قلب التجربة؟