لم يكن إلفيس بريسلي مجرد مغنٍّ أمريكي أو اسم مؤثر في تاريخ موسيقى الروك آند رول، بل كان ظاهرة فنية وثقافية محورية في القرن العشرين. بصوته الفريد، أعاد تعريف الأداء الموسيقي في الولايات المتحدة والعالم، وأصبح رمزًا للقدرة على النهوض من الفشل واستعادة المجد بعد سنوات من التخبط في أعمال سينمائية لم تضف شيئًا لمسيرته الفنية.
لقد وثّق فيلم “عودة الملك إلفيس بريسلي: قصة فشل ونجاح” الذي أنتجته نتفليكس هذه القصة الأسطورية. لا يكتفي الفيلم باستعراض سيرة نجم فقد بريقه ثم استعاده، بل يتأمل بعمق كيف استعادت الموسيقى صوتها من خلال رجل واحد، وكيف صعد “الملك” من جديد، متسلحًا بصوته الصادق وحقيقته.
يلتقط الوثائقي لحظة مفصلية في حياة إلفيس، كاشفًا الفجوة المتزايدة بين شخصيته الحقيقية وصورته المتداولة. لقد بدأ فنانًا متمردًا يمزج بين البلوز، والغوسبل، والكانتري، لكنه تحول إلى مجرد نجم سينمائي بلا روح، طمست هويته وسط الضجيج بعد أن ألقت به سنوات الستينيات الأولى في دوامة من الأعمال السينمائية التجارية المتكررة، مستنزفة إبداعه وجوهره.
لقد كان أسيرًا لصورة رسمها له مدير أعماله، الذي دفعه نحو استثمار سطحي بعيد عن الجذور الموسيقية التي شكلت بداياته. حتى جاء حفل تاريخي أواخر عام 1968، أعاد إلفيس بريسلي من تحت الرماد وأجلسه مرة أخرى على عرشه الغنائي. في هذا الحفل، قدم أداءً استعاد به ذاته، متذكرًا الرجل الذي دخل عالم الغناء لأنه لم يجد وسيلة للتعبير أصدق من الموسيقى.
الأداء المباشر وتحرر الفنان
يسعى الفيلم الوثائقي إلى وضع المشاهد في سياق العرض التاريخي، ليُدرك الفرق الكبير بين ما كان يُسجل في استوديوهات الإنتاج وما قدمه إلفيس بريسلي في تلك الليلة. لقد أتاح الأداء المباشر والصادق قدرًا هائلاً من التحرر، وكسر قيود صناعة الموسيقى. لقد ارتجل، وضحك، أخطأ وأعاد، وغنى لنفسه قبل جمهوره.
تقنيًا، يمتلك بريسلي صوتًا استثنائيًا يمتد على أكثر من أوكتافين، لكن قوته لا تكمن في مدى الصوت فحسب، بل في الطريقة التي يستخدم بها التسريع التدريجي في بعض المقاطع لتوليد التوتر العاطفي. على سبيل المثال، في أغنية “If I Can Dream”، التي اختُتم بها العرض، يغني على مقام مينوري بتدرج تصاعدي مذهل، يعكس الشوق العميق للحلم والتغيير في ظل اضطرابات الستينيات السياسية والعرقية. بهذا الأداء، لم تكن الأغنية مجرد رسالة أمل، بل كانت احتجاجًا ناعمًا يلامس الوجدان.
أما في أغنية “Heartbreak Hotel”، فنسمع البلوز الكلاسيكي محمولًا على إيقاع مشدود، مزينًا بتقنية الإزاحة الإيقاعية (Syncopation) التي تجعل الصمت جزءًا من اللحن. يستخدم بريسلي خلال الأغنية جملًا موسيقية قصيرة تتكرر بإيقاع يشبه الأنين البشري. بينما تستحضر بنية “Trying to Get to You” اللحنية عمق الجذور الأفريقية للموسيقى الأمريكية. لم يكن الأداء هنا مجرد محاكاة، بل انتماء صادق لإرث موسيقي ظل إلفيس بريسلي مخلصًا له رغم كل محاولات فصله عن جذوره. ومن الملاحظ أن إلفيس لم يقدم في هذا الحفل التاريخي إلا أغانيه القديمة الشهيرة، التي تركت آثارًا عميقة في وجدان عشرات الملايين من جمهوره حول العالم.
الغوسبل: هوية روحية
يركز الفيلم الوثائقي على ارتباط بريسلي بموسيقى الغوسبل، ليس بوصفها نوعًا موسيقيًا يؤديه عرضًا، بل ككونها هوية روحية. الغوسبل هي نوع من الموسيقى الدينية المسيحية، نشأت في الولايات المتحدة، وتُستخدم غالبًا في الكنائس، خصوصًا في التجمعات البروتستانتية، وتُعرف بقدرتها الكبيرة على نقل مشاعر الأمل، والخلاص، والفرح وسط المعاناة. ومن أهم خصائصها الصوت البشري القوي، والكورال الجماعي، والإيقاع الحماسي، والتبادل بين المغني والكورال، والتكرار الذي يؤكد المعنى الروحي.
نشأ بريسلي على صوت الكنيسة، وتشبّع داخله بهذا الإيقاع الإنجيلي الذي يتعالى على الكلمات ليصل إلى التجربة الروحية نفسها. في أحد مشاهد الفيلم، يغني مقطعًا دينيًا مغمض العينين، كأنه يصلي، بأداء لا يهدف إلى استجداء الإعجاب، بل إلى استعادة لحظة صفاء. وكأن ما فقده في سنوات النجومية، وجده مجددًا في صوت يرتل أكثر مما يغني.
شهادات أيقونات موسيقية
يسجل الفيلم حضور عدد من الأصوات الموسيقية والنقدية التي قدمت إضاءات على قيمة هذه العودة، باعتبارها لحظة موسيقية مفصلية. يدلي بروس سبرينغستين، أحد أبرز المعجبين ببريسلي، بشهادته في الفيلم: “في تلك اللحظة، كان إلفيس يغني كأن العالم سينتهي غدًا. لقد غنى من أجل الحياة، ليس من أجل الكاميرا”. تلك العفوية، الصادقة المتجردة من الكمال، كانت هي ما جعل الأداء حيًا أكثر من أي استعراض مصقول. ويضيف سبرينغستين أن ما فعله بريسلي في حفل عام 1968 أعاد تعريف مفهوم “العرض الحي”.
تقول بريسيلا بريسلي، زوجة إلفيس السابقة وصاحبة الدور الأبرز في الحفاظ على إرثه الفني: “رأيته هناك كما لم أره من قبل. لم يكن يغني، بل يتنفس من جديد”. كما يبرز الفيلم رأي الموسيقي الأمريكي بيلي كورغان الذي يؤكد أن بريسلي لم يكن أبدًا مجرد مؤدٍّ، بل فنان صادق لا يحتمل الاصطناع. يرى كورغان أن ما قدمه في ذلك العرض لم يكن يستهدف الإعجاب، بل كان أشبه بمناجاة.
الإرث والتأثير
بعد هذا العرض، لم تعد عودة إلفيس مجرد خبر، بل أصبحت مرجعًا لأجيال لاحقة من الفنانين الذين بحثوا عن الصدق في زمن الإنتاج السريع: نيل يونغ، وجوني كاش، وحتى مايكل جاكسون، تأثروا بهذا النموذج، إذ لا يكفي أن تمتلك صوتًا جميلًا، بل يجب أن تمتلك ما يُقال.
رغم أن الوثائقي نجح في تقديم صورة صادقة وقوية لعودة بريسلي، إلا أن بعض النقاد يرون أنه لم يذهب بعيدًا في طرح الأسئلة الأصعب. لم يُناقش مثلًا بما يكفي علاقته بمحيطه العرقي، أو موقفه من تحولات السياسة في بلاده، ولا أثيرت جوانب أزمته النفسية التي سبق أن تناولتها أفلام وسير سابقة.
لكن هذا النقد يصدر عن المهتمين بالسياق والأحداث المحيطة ربما بدرجة أكبر من العمل الفني نفسه، وهو ما اختلف معه صناع الفيلم، الذين مالوا إلى رؤية فنية بحتة. فالمخرج جيسون هايهر أراد أن يركز على الموسيقى، وأن يسلط الضوء على لحظة الإبداع لا على هوامشها. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الخلفية السياسية والاجتماعية في عام 1968 لم تكن لتنفصل عن الأداء، خصوصًا أن بريسلي اختار أغنية تدعو إلى الحلم والوحدة في زمن الانقسام.
التحول والنهوض
بين عامي 1960 و1968، ركز بريسلي على التمثيل في أفلام هوليوود التجارية، التي اتسمت بالرداءة وضعف الحبكة والاستسهال الموسيقي. ضعفت صورته المستقرة باعتباره رمزًا موسيقيًا ثائرًا ومجددًا. في هذه المرحلة، كان المشهد الموسيقي يتغير بسرعة مع بروز فرق مثل “ذا بيتلز” و”ذا رولينغ ستونز”، وتطور موسيقى الروك.
بحلول منتصف الستينيات، بدأ نجم بريسلي بالأفول، وبات بحاجة إلى مشروع يعيد له بريقه الفني. وهنا جاء الاقتراح من مدير أعماله كولونيل توم باركر لتقديم عرض تلفزيوني خاص بعيد الميلاد على قناة إن بي سي. لكن ما حدث تجاوز أن يكون مجرد احتفال موسمي، وتحول إلى أحد أكبر الوقائع الموسيقية في التاريخ المعاصر.
خطط منظمو الحفل لكل شيء، قرروا أن تكون مدة الحدث ساعة واحدة، ثم قسموا الساعة إلى أربع وقائع رئيسية:
- الجلوس: حيث جلس بريسلي على مسرح صغير محاطًا بجمهور محدود، مرتديًا زيًا جلديًا أسود، ثم غنى وعزف مع فرقته القديمة أغانيه الكلاسيكية بأسلوب مباشر وحيوي، مما أعاد الاتصال بينه وبين جمهوره فورًا.
- الأداء المسرحي الاستعراضي: أدى بريسلي عدة أغانٍ على خشبة المسرح أمام جمهور أكبر، مظهرًا حضوره القوي وصوته الجبّار، ومبرزًا تطوره كمغنٍ محترف.
- المقاطع الدرامية والغنائية المصورة: تخللت الحفل فقرات غنائية جرى إخراجها بأسلوب سينمائي، مثل أداء أغنية “Guitar Man”، التي صورت رحلة بريسلي الفنية من بداياته إلى ذروة مجده.
- الختام الأسطوري: بأداء أغنيته الأشهر “If I Can Dream”، التي كُتبت خصيصًا تفاعلًا مع حادث اغتيال مارتن لوثر كينغ، وتحمل رسالة أمل ودعوة إلى الوحدة. مثل أداء الأغنية وتبديل الملابس الجلدية السوداء بأخرى بيضاء ذروة اللحظات العاطفية في العرض، الذي يعتبره كثير من المؤرخين الموسيقيين أحد أعظم العروض التلفزيونية في التاريخ الأمريكي، بعد أن وضع في فكرة الانبعاث الفني معنى الإمكان.