في الآونة الأخيرة، تتردد بعض الأصوات التي تطالب الفنانين الكبار بالتقاعد والتوقف عن ممارسة فنهم، وكأن الإبداع له تاريخ صلاحية ينتهي عند عُمر معين. تُطرح هذه الدعوات أحيانًا بحجة إفساح المجال للشباب، أو للحفاظ على “صورة” الفنان في أوج عطائه. ولكن هل يمكن حقًا أن نحدد سقفًا زمنيًا للإبداع؟ وهل ينبغي لنا أن نحرم أنفسنا من خبرات وإسهامات فنانين نضجوا فنيًا وإنسانيًا؟
لنأخذ على سبيل المثال الفنان القدير وليد توفيق. فنان يمتلك تاريخًا طويلاً من الأغاني الناجحة والحضور الفني المميز. لماذا يُطلب منه التوقف؟ هل فقد صوته بريقه؟ هل نضب إلهامه؟ الإجابة غالبًا ما تكون بالنفي القاطع. إن المطالبة بتقاعد فنان بحجم وليد توفيق تتجاهل قيمة الخبرة المتراكمة، والقدرة على التجديد التي غالبًا ما تتجلى في مراحل متأخرة من مسيرة الفنان.
إذا نظرنا إلى تاريخ الفن العربي، سنجد العديد من الأمثلة الساطعة التي تدحض فكرة التقاعد الفني القسري. عمالقة مثل الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ظل يقدم لنا روائع فنية حتى سنواته الأخيرة، ولم يتوقف عطاؤه الفني أبدًا. وكذلك سيدة الغناء العربي أم كلثوم، التي ظلت تبهر الجماهير بصوتها وأدائها الفريد حتى الرمق الأخير من حياتها، وكل حفلة كانت بمثابة درس في الفن والإبداع المتجدد.
ولن ننسى فنانين بحجم الموسيقار فريد الأطرش الذي أثرى المكتبة الموسيقية العربية بأعمال خالدة استمر في تقديمها بجودة وعمق حتى آخر أيامه. ومن لبنان، يبرز اسم عملاق الطرب وديع الصافي، الذي لم يمنعه التقدم في العمر من مواصلة الغناء بنفس القوة والإحساس الذي عودنا عليه، بل كان عطاؤه في سنواته الأخيرة أكثر نضجًا وعمقًا.
هذه الأمثلة ليست مجرد حالات فردية، بل هي دليل قاطع على أن الفن لا يعرف سنًا. إن الخبرة الفنية، والنضج العاطفي، والقدرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية بعمق، غالبًا ما تزداد مع تقدم العمر. الفنان الكبير لا يكتفي بتقديم الأغاني، بل يقدم إرثًا فنيًا، ورسالة حياتية، ونموذجًا للإصرار والعطاء.
إن المطالبة بتقاعد الفنانين الكبار هو حرمان للجمهور من الاستمتاع بإبداعهم، وحرمان للأجيال الجديدة من الاستفادة من خبراتهم وتجاربهم. الفن هو رحلة مستمرة من التطور والنضج، ولا يجب أن نضع لها خط نهاية مصطنعًا. دعونا نترك للفنانين حرية الاختيار، فهم الأدرى بمتى وكيف يقدمون فنهم، ودعونا نستمتع بكنوزهم الفنية مهما تقدم بهم العمر.
بقلم / ميشيل نان